بدأت مقابر كبيرةٌ تُعرف باسم "كوفِن" في الظهور في الفترة ما بين القرنين
وتبين أن المؤشرات المرتبطة بتلك النظائر تشكل ما يمكن أن يُسمى "بصمات
الزمن"، فكلٍ منها يرتبط بالسنة التي ظهر فيها لا غيرها. وقد استخدم الباحث
الياباني القرائن والمؤشرات الأثرية والتاريخية لتحديد عمر هذه النظائر
وربطها بأعمار الأشجار والظروف المناخية، ليتسنى له إعداد جدولٍ زمنيٍ
متصلٍ ومتماسكٍ امتد من عام 600 قبل الميلاد إلى عام 2000، ما يوفر تسلسلاً زمنياً مُحكماً ودقيقاً.
ويقول ناكتسكا إنه على الرغم من الدقة البالغة التي تتسم بها التقديرات الناتجة عن اللجوء إلى هذه الطريقة، فإن استخدامها يتطلب كثيراً من الوقت والجهد مُقارنةً بما تستلزمه الدراسات التقليدية، التي تستخدم أسلوب "حلقات النمو".
وبينما استطاع الباحث الياباني أن يتعرف من خلال جدوله الزمني، على ما حدث كل نحو 400 عامٍ من زيادةٍ أو انخفاضٍ على نحوٍ غير منتظمٍ في معدلات هطول الأمطار؛ لم يكن بمقدوره أن يعلم عبر هذا الجدول أسباب هذه الأنماط المتذبذبة.
وتماشت التغيرات التي رصد ناكتسكا حدوثها كل بضعة عقود بشكلٍ كبيرٍ، مع ما أظهرته بياناتٌ أخرى مستقاةٌ من دراساتٍ تقليديةٍ استخدمت أسلوب دراسة "حلقات النمو".
وبالتعاون مع علماء الآثار والمؤرخين، تسنى لهذا الرجل كشف النقاب عن التأثيرات التي خلّفتها التغيرات التي حدثت في معدلات هطول الأمطار، في الأشخاص الذين عاشوا في الحقب التي شهدت تلك التقلبات.
وتبين على سبيل المثال أن أنماط سقوط المطر سواء على المدى الزمني القصير أو الطويل، توافقت مع الشعائر التي قادها كهنةٌ مشاهير في العصور الوسطى للابتهال إلى السماء من أجل نزول الغيث.
واتضح أن تطوير نظم ريٍ وأساليب تعاونيةٍ ينتفع من خلالها المزارعون بالمياه الجوفية بهدف تجنب خطر الجفاف، حدث في أوقاتٍ أظهر فيها السجل الذي أعده ناكتسكا، تدني مستوى هطول الأمطار. الأمر نفسه انطبق على الحقب التي شهدت ظهور سياساتٍ حكوميةٍ استهدفت إنقاذ الرعايا من الموت جوعاً خلال فترات المجاعة.
الأكثر أهمية من كل ذلك، أن التقلبات التي حدثت كل عدة عقود في أنماط هطول المطر، توافقت على نحوٍ منتظمٍ مع حلول الحقب والعصور المهمة في التاريخين الصيني والياباني.
وفي هذا الشأن، يقول كينيشكو باكاباياسي العالم في آثار عصور ما قبل التاريخ في إحدى الجامعات اليابانية إن علماء الآثار كانوا - في الفترة التي سبقت توصل ناكتسكا إلى طريقته التحليلية الجديدة - ينظرون إلى عملية تشكل الدولة في التاريخ الياباني، على أنها مرتبطةٌ في الأساس بمراحل التغير الاجتماعي.
وأضاف باكاباياسي - الذي يدرس توزيع مناطق إقامة الإنسان القديم حول مدينة أوساكا الساحلية - أن الأمر الآن اختلف إذ "صار بوسعنا فهم أن الفيضانات تشكل خلفيةً لمثل هذه التغيرات الاجتماعية".
فخلال ما يُعرف بفترة حكم "يايوي" التي امتدت بين عامي 1000 قبل الميلاد و350 ميلادية، تركزت غالبية المستوطنات البشرية التي أُقيمت قرب نهر يودو بوسط اليابان، في مناطق الدلتا منخفضة الارتفاع. وبدأت زراعة الأرز في تلك الحقبة وأصبحت ركناً رئيسياً من أركان الحياة. وشيّد الناس آنذاك منازل صغيرة تُسمى "لبداتٍ" للإقامة فيها بجانب الحقول الصغيرة التي يُزرع فيها الأرز. وكان هؤلاء الأشخاص يعمدون عند تغير مسارات المياه، إلى تغيير أماكن سكنهم ببساطة لتكون بالقرب منها، متجنبين بذلك حدوث أي اضطراباتٍ واسعة النطاق.
لكن الأمور بدأت في التغير في عام 100 قبل الميلاد أو نحو ذلك، إذ انخفضت درجة الحرارة وازدادت معدلات سقوط الأمطار. وحينها بدأ مزيدٌ من الناس في الانتقال لأماكن أبعد وأكثر ارتفاعاً، وهو ما يمثل بحسب باكاباياسي، مؤشراً على الارتباك الاجتماعي الناجم عن تكرار حدوث الفيضانات. وأضاف الرجل أن القرن الخامس اتسم على وجه الخصوص، بتحركاتٍ غير طبيعية وحادة للمستوطنات البشرية صوب أعالي الجبال.
ولذا لم تكن هناك منازل تقريباً مُقامةً في الوادي عند بدء حقبة كوفون، التي امتدت بين القرنين الثالث والسادس الميلادييْن، وكان تغير المناخ بمثابة العامل الحفاز الذي أدى لحدوث هذه العملية، لكن العوامل الاجتماعية سرعان ما ظهرت كنتيجةٍ لذلك، وقادت بدورها إلى تغيراتٍ إضافية.
وبحسب باكاباياسي، استغل الوجهاء والزعماء المحليون الأزمات البيئية لإعادة ترتيب البنى الاجتماعية، إذ بدأوا السيطرة على مسألة إدارة حقول الأرز على سبيل المثال. وظهرت فئةٌ متخصصةٌ من العاملين في مجال الحدادة، وبدأت إقامة مقابر ضخمةٍ يبلغ طولها نحو 200 متر، ما شكّل انحرافاً حاداً عن طبيعة الحياة التي كانت سائدةً من قبل، ومثّل كذلك مؤشراً على شكل التسلسل الاجتماعي الهرمي الآخذ في التبلور في المجتمع الياباني.
ومع هدوء الأمطار وتراجع معدلات هطولها أخيراً في القرن السابع، شرع الناس في العودة إلى المناطق المنخفضة، ودخلت البلاد ما يُعرف بـ "حقبة أسوكا"، التي بدأ فيها انتشار البوذية، وسُنت خلالها القوانين، وتشكلت الدولة في اليابان في مراحلها المبكرة.
لا توجد الكثير من الإشارات المكتوبة في عصور التاريخ القديم لليابان، وهو ما يختلف عن الوضع في السنوات اللاحقة لذلك، التي تميزت بوجود عددٍ متزايدٍ من المراسلات والسجلات، التي يمكن للمؤرخين الانتفاع بها لتتبع التقلبات الاجتماعية التي نجمت عن تغيرات المناخ.
وبالنظر إلى ارتفاع معدلات الأمية في اليابان في الماضي، شكّل وجود وثائق تعود إلى القرن الثامن أمرا بالغ الأهمية. وعلى سبيل المثال، تخبرنا الوثائق التي تعود إلى فترة إيدو (بين عامي 1603 و1867) بأن اليابان اعتمدت على الاقتصاد الزراعي حينذاك.
ويقول ناكتسكا إنه على الرغم من الدقة البالغة التي تتسم بها التقديرات الناتجة عن اللجوء إلى هذه الطريقة، فإن استخدامها يتطلب كثيراً من الوقت والجهد مُقارنةً بما تستلزمه الدراسات التقليدية، التي تستخدم أسلوب "حلقات النمو".
وبينما استطاع الباحث الياباني أن يتعرف من خلال جدوله الزمني، على ما حدث كل نحو 400 عامٍ من زيادةٍ أو انخفاضٍ على نحوٍ غير منتظمٍ في معدلات هطول الأمطار؛ لم يكن بمقدوره أن يعلم عبر هذا الجدول أسباب هذه الأنماط المتذبذبة.
وتماشت التغيرات التي رصد ناكتسكا حدوثها كل بضعة عقود بشكلٍ كبيرٍ، مع ما أظهرته بياناتٌ أخرى مستقاةٌ من دراساتٍ تقليديةٍ استخدمت أسلوب دراسة "حلقات النمو".
وبالتعاون مع علماء الآثار والمؤرخين، تسنى لهذا الرجل كشف النقاب عن التأثيرات التي خلّفتها التغيرات التي حدثت في معدلات هطول الأمطار، في الأشخاص الذين عاشوا في الحقب التي شهدت تلك التقلبات.
وتبين على سبيل المثال أن أنماط سقوط المطر سواء على المدى الزمني القصير أو الطويل، توافقت مع الشعائر التي قادها كهنةٌ مشاهير في العصور الوسطى للابتهال إلى السماء من أجل نزول الغيث.
واتضح أن تطوير نظم ريٍ وأساليب تعاونيةٍ ينتفع من خلالها المزارعون بالمياه الجوفية بهدف تجنب خطر الجفاف، حدث في أوقاتٍ أظهر فيها السجل الذي أعده ناكتسكا، تدني مستوى هطول الأمطار. الأمر نفسه انطبق على الحقب التي شهدت ظهور سياساتٍ حكوميةٍ استهدفت إنقاذ الرعايا من الموت جوعاً خلال فترات المجاعة.
الأكثر أهمية من كل ذلك، أن التقلبات التي حدثت كل عدة عقود في أنماط هطول المطر، توافقت على نحوٍ منتظمٍ مع حلول الحقب والعصور المهمة في التاريخين الصيني والياباني.
وفي هذا الشأن، يقول كينيشكو باكاباياسي العالم في آثار عصور ما قبل التاريخ في إحدى الجامعات اليابانية إن علماء الآثار كانوا - في الفترة التي سبقت توصل ناكتسكا إلى طريقته التحليلية الجديدة - ينظرون إلى عملية تشكل الدولة في التاريخ الياباني، على أنها مرتبطةٌ في الأساس بمراحل التغير الاجتماعي.
وأضاف باكاباياسي - الذي يدرس توزيع مناطق إقامة الإنسان القديم حول مدينة أوساكا الساحلية - أن الأمر الآن اختلف إذ "صار بوسعنا فهم أن الفيضانات تشكل خلفيةً لمثل هذه التغيرات الاجتماعية".
فخلال ما يُعرف بفترة حكم "يايوي" التي امتدت بين عامي 1000 قبل الميلاد و350 ميلادية، تركزت غالبية المستوطنات البشرية التي أُقيمت قرب نهر يودو بوسط اليابان، في مناطق الدلتا منخفضة الارتفاع. وبدأت زراعة الأرز في تلك الحقبة وأصبحت ركناً رئيسياً من أركان الحياة. وشيّد الناس آنذاك منازل صغيرة تُسمى "لبداتٍ" للإقامة فيها بجانب الحقول الصغيرة التي يُزرع فيها الأرز. وكان هؤلاء الأشخاص يعمدون عند تغير مسارات المياه، إلى تغيير أماكن سكنهم ببساطة لتكون بالقرب منها، متجنبين بذلك حدوث أي اضطراباتٍ واسعة النطاق.
لكن الأمور بدأت في التغير في عام 100 قبل الميلاد أو نحو ذلك، إذ انخفضت درجة الحرارة وازدادت معدلات سقوط الأمطار. وحينها بدأ مزيدٌ من الناس في الانتقال لأماكن أبعد وأكثر ارتفاعاً، وهو ما يمثل بحسب باكاباياسي، مؤشراً على الارتباك الاجتماعي الناجم عن تكرار حدوث الفيضانات. وأضاف الرجل أن القرن الخامس اتسم على وجه الخصوص، بتحركاتٍ غير طبيعية وحادة للمستوطنات البشرية صوب أعالي الجبال.
ولذا لم تكن هناك منازل تقريباً مُقامةً في الوادي عند بدء حقبة كوفون، التي امتدت بين القرنين الثالث والسادس الميلادييْن، وكان تغير المناخ بمثابة العامل الحفاز الذي أدى لحدوث هذه العملية، لكن العوامل الاجتماعية سرعان ما ظهرت كنتيجةٍ لذلك، وقادت بدورها إلى تغيراتٍ إضافية.
وبحسب باكاباياسي، استغل الوجهاء والزعماء المحليون الأزمات البيئية لإعادة ترتيب البنى الاجتماعية، إذ بدأوا السيطرة على مسألة إدارة حقول الأرز على سبيل المثال. وظهرت فئةٌ متخصصةٌ من العاملين في مجال الحدادة، وبدأت إقامة مقابر ضخمةٍ يبلغ طولها نحو 200 متر، ما شكّل انحرافاً حاداً عن طبيعة الحياة التي كانت سائدةً من قبل، ومثّل كذلك مؤشراً على شكل التسلسل الاجتماعي الهرمي الآخذ في التبلور في المجتمع الياباني.
ومع هدوء الأمطار وتراجع معدلات هطولها أخيراً في القرن السابع، شرع الناس في العودة إلى المناطق المنخفضة، ودخلت البلاد ما يُعرف بـ "حقبة أسوكا"، التي بدأ فيها انتشار البوذية، وسُنت خلالها القوانين، وتشكلت الدولة في اليابان في مراحلها المبكرة.
لا توجد الكثير من الإشارات المكتوبة في عصور التاريخ القديم لليابان، وهو ما يختلف عن الوضع في السنوات اللاحقة لذلك، التي تميزت بوجود عددٍ متزايدٍ من المراسلات والسجلات، التي يمكن للمؤرخين الانتفاع بها لتتبع التقلبات الاجتماعية التي نجمت عن تغيرات المناخ.
وبالنظر إلى ارتفاع معدلات الأمية في اليابان في الماضي، شكّل وجود وثائق تعود إلى القرن الثامن أمرا بالغ الأهمية. وعلى سبيل المثال، تخبرنا الوثائق التي تعود إلى فترة إيدو (بين عامي 1603 و1867) بأن اليابان اعتمدت على الاقتصاد الزراعي حينذاك.
Comments
Post a Comment